قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيتها الأمة لا أخاف عليكُم فيما لا تعلمون ولكن انظروا كيف تعملون فيما تعلمون".
منذ آلاف السنين عرضت آلاف المدارس الفكرية والمذاهب الدينية وآلاف المفكّرين وأصحاب الرأي لموضوع التربية، وما العمل لتربية الإنسان بشكل صحيح! فكان الاتجاه السائد في الأقوال والكتابات هو التعبير عن الخطوات (المفروض اتخاذها) في سياق التربية. وما هي العوامل الدخيلة في التربية وأية أساليب يجب اتباعها للتربية وما هي الخطوات التي يتعين اتخاذها لتحقيق أهداف التربية المطلوبة. ولكن قلما ظهر كتاب أو مؤلف يتناول موضوع التربية لا من زاوية "الضرورات المطلوبة" بل من زاوية "المحظورات". يبدو أن أغلبية الأمور التي جعلت التربية عملية صادمة والمتربي مخلوقاً متعرض للصدمات يتركز حول محور "الضرورات". فلو كنا نقدر على الامتناع عن التلاعب بالشخصية، عن تقديم الوصايا، عن التدخل، عن القولبة، عن التغيير وعن التعويد ارتفع احتمال نجاحنا في تحقيق تربية طبيعية، تربية باطنية، تربية نقية، تربية أكثر فأكثر. ولكن عندما تشرع التدخلات الساذجة والتلاعبات المتسارعة تخرج التربية في سياق نمو وتطوّر الإنسان عن مسيرتها الطبيعية، والفطرية. أي بتعبير آخر لابدّ من الاعلان بوضوح عن أن: الصدمات تأخذ بالظهور متى ما بدأ العلاج. فمتى ما تشرع عملية التربية تتعطل عملية "التربي" ومتى ما تتم عملية الإنماء والتزهير القسري تفشل عملية "الازدهار والازهرار التلقائي". ومتى ما يُستند إلى عملية التسيير يتوقف "السير التلقائي". "القولبة" تمنع "التقولب". "التسريع" في عملية الإنماء يعرقل "النضوج والبلوغ" في النمو. وفرض "الخطابات التربوية" يحول دون استدخالها. وعندما يلحق التطبيع الديني بقائمة العمليات المبرمجة النظامية الموجهة للأطفال يتطبع "الالتزام الديني" عندهم بالسطحية والتصنع وعندما يتم تزيين شخصية الطفل خارجياً، تختفي مدخوراته الفطرية باطنياً. وعندما يتم نقل المعلومات تطمر قابلية اكتشاف الوعي. وعندما يتم ارواء ذهن الطفل ينكفئ دافع التعلم ولهفته. وعندما تتعزز تلبية الطلبات يتراجع دافع الحاجة والرغبة في الاستطلاع. وعندما يبدأ عرض النماذج ينعدم تقصي النماذج. وعندما يسود التشجيع الخارجي يتخاذل الاندفاع الذاتي الباطني. وعندما يغدو "التعويد" أصلاً يصبح "الانتقاء والاختيار" فرعاً. وعندما يتم التركيز على "إسداء النصح" شكلياً ينعدم "التطبيق المتعمق" وبعرض طرق الحل والإجابات تحذف صياغة القضايا وتقصي الإجابات. وبتقديم بطاقات التحسين كمكافآت تتهشم مصادر الاندفاع التلقائي. وبحقن الفيتامينات خارجياً تتراجع عملية صنع الفيتامينات باطنياً. وبالإنهاض يتضاءل النهوض. وبمنح الأدوار يخفت تقبل الأدوار. وإبداء تحسس زائد إزاء واجبات أطفالنا يمنع تحسسهم ذاتياً إزاءها. واشباع جميع مطاليب واحتياجات أبنائنا بشكل متواصل يحرمهم من قابلية تحمل الفشل ومن مهارة الحلم. والانكباب على رعايتهم يجعل حصانتهم وصيانتهم إزاء التلوثات والفايروسات المحيطة بهم في خطر. وبتوفير السعادة لأبنائنا خارجياً نسلبهم الشعور الباطني بالسعادة. وعند رفدهم باللذائذ الظاهرية في الحياة، نغتال التذاذهم باطنياً منها. وباجبارهم على الرغبة في شيء ما، نزيدهم نفوراً من ذلك الشيء. وعندما تعرض العلوم جاهزة، تتراجع "البصائر" و"الكشفيات". وبتراكم "المدخورات" و"المحفوظات" تتحدد الابداعات والتخيلات البناءة. وأخيراً تتسبب الضرورات المطلوبة ونمط هذه الضرورات، في انحراف التربية عن مسيرتها الطبيعية التلقائية والفطرية الباطنية. عندئذ تصبح "المحظورات" ونمطها الأساس الذي تقوم عليه التربية الناشطة.
هنا تحظى "المحظورات" في حقل التربية بحظ أوفر من الاهتمام قياساً إلى "الضرورات"، و"التربية الإحجامية" بدور أكثر فاعلية من دور "التربية الإقدامية"، و"تجنب التدخل" بأثر أعمق من أثر "التدخل". وعدم التلاعب يكون مرجحاً على التلاعب للتوجيه في سياق التربية، وتصبح التربية الصامتة أفضل من التربية اللفظية الكلامية، والتربية البيضاء أوضح قراءة وأكثر قابلية على التعليم من التربية الكتابية.
وبتعبير آخر، لو يكون بإمكاننا تعلم مبادئ تجنب التربية، نكون قد أحكمنا دعائم "تربي" الأطفال تلقائياً ولو نلتفت إلى مواطن ضعف التربية نكون قد استزدنا التربية قوة، ولو نتمكن من التنحي "جانباً" والتفاعل "عن بعد" يكون دورنا في "مجال" التربية أفضل وأقوى.
في مثل هذه الحالة يمكننا الالتفات إلى براعة "التربية التجنبية"، براعة "التوقف"، وبراعة "الاحجام عن المبادرة" وبراعة "عدم التدخل"، عندئذ سوف نرى كيف ينتعش "التربي" التلقائي الغريزي بامتناعنا من "التربية"، ويتم "الاكتشاف" بإحجامنا عن التعليم، ويظهر "الاندفاع" بتجنب "الإجبار" ويبدأ التقصي بنبذ "الإيحاء".
من هنا، يمكننا، بناء على هذه الرؤية، عرض التربية بأسلوب آخر، بأسلوب يجعل الاحجام عن التربية عين التربية، وعدم القولبة عين القولبة، وتجنب التعليم أمثل أسلوب للتعليم.
وانطلاقاً من نفس هذه الحقيقة نعود للتأكيد ثانية: "نعرفه" عن التربية أكبر خطراً مما "نجهله" عنها، وما "نؤديه" في سياق التربية أكبر خطراً مما نحجم عن "أدائه".
إذاً، يمكن الاستنتاج بأنه: في مثل هذه الظروف نكون، بالتأكيد، أسندنا عملية التربية أكثر فيما لو أحجمنا عن أي إقدام ومنعنا كذلك اتخاذ أي إقدام. فالوعاء الفارغ أكثر أماناً (من حيث الخصائص الصحية) من الوعاء الملوث، والذهن الفارغ أكثر قدسية من الذهن المصدوم. أو بعبارة أخرى "عدم المعرفة" أفضل من "المعرفة السلبية" و"عدم البناء" أكثر فاعلية في سياق البناء من "البناء المائل"، "عدم القولبة" أجمل من "القولبة المستقبحة"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق