جاءت الكلمات واضحة من الجارة الطيبة "أم سمر"، تطالبها ألا ترسل إليها شيئًا إلا مع ابنتها "غادة" وعندما تساءلت الأم: ولماذا غادة بالذات؟
أجابت جارتها: بصراحة أنا أفرح كلما رأيتها؛ فهي مهذبة في كلامها، تخاطب الكبار بأدب، لا تجاوز حدود الباب أدبًا وحياءًا، ولا تأتينا إلا بحجابها الصغير مع أننا جيران، بصراحة إن ابنتك الصغيرة "غادة" ـ 12 سنة ـ قدوة أتعلم منها أنا وابنتي "سمر" فبارك الله لنا فيكِ وفيها.
كان شيئا رائعًا سمعته الأم وحمدت الله تعالى أن وفقها لتلك النتيجة .. إنَّ ذلك يعني أن ابنتها تتكيف بنجاح مع المجتمع المحيط بها، في توازن وانضباط، بينما تبقى الكثير من الفتيات غيرها حبيسة الخجل والانطواء، أو ضحية للانفتاح الغير منضبط على المجتمع بخيره وشره، مما يهدر الوقت ويضيع العمر ولا تأمن معه الفتاة من الشر.
أخي المربي .. عزيزتي الأم
إنَّ هذه الصورة الجميلة للفتاة المسلمة الواعدة، التي تحسن التفاعل والتواصل مع مجتمعها بنجاح هي ما نصبو إليه، والجهد المبذول في هذا الجانب من جوانب التربية هو ما يسمى بـ"التربية الاجتماعية للفتاة المسلمة".
ماذا نعني بالتربية الاجتماعية؟
تأديب الفتاة منذ نعومة أظفارها على التزام آداب اجتماعية فاضلة وأصول نفسية نبيلة، تنبع من العقيدة الإسلامية (عبد الله ناصح علوان: تربية الأولاد في الإسلام، (1/353)، بتصرف).
لتظهر الفتاة في المجتمع على خير ما يكون من حسن التعامل، والأدب، والاتزان، والعقل الناضج، والتصرف الحكيم.
ويتأكد في حق والدي الفتاة العناية بهذا الجانب في تربيتها، نظرًا لأهميته، حيث تعالج التربية الاجتماعية الانعكاس السلوكي لما تربت عليه الفتاة من قيم نبيلة، وما تعلمته من أخلاقيات فاضلة.
ومن الطريف ما توصلت إليه إحدى الدراسات التي أجريت على شريحة كبيرة ومتنوعة من أفراد المجتمع الأمريكي عن أهم أسباب السعادة في الحياة، حيث جاءت "العلاقات الاجتماعية الناجحة" في المركز الأول، وأكدت الشريحة أنَّ التواصل الاجتماعي الناجح هو أهم عنصر في قائمة أسباب السعادة، يأتي بعدها "الصحة والشهرة والمال"، وغيرها مما يهواه بني البشر (كريم الشاذلي: امرأة من طراز خاص، ص:121).
وتلك النتيجة التي أسفرت عنها هذه الدراسة تؤكد حاجة الإنسان الفطرية، لأن يتواصل بنجاح مع أفراد مجتمعه.
العلاقة بين المراهِقة والمجتمع:
وفي مرحلة المراهَقة يمثل الاحتكاك المباشر بين الفتاة والمجتمع مجالًا خصبًا للشعور بالنضج وتبلور الذات، ففي هذه المرحلة تتعامل الفتاة من خلال ذاتها مباشرة، وليس من خلال والديها، كما يتعامل الآخرون معها بشخصها الحاضر، مما يمثل أمرًا مثيرًا يالنسبة لها ـ وللمراهقين عمومًا ـ يدفعها نحو الإحساس بالذات ومحاولة إثباتها والدفاع عن آرائها الشخصية وإن كانت خاطئة.
كما يبرز في هذه المرحلة الارتباط الشديد بمجموعة الرفاق "الشلة" وقوانينها وأعرافها التي يخترعونها، حيث يكون تأثير الشلة علىالمراهقين والمراهقات أقوى من تأثير الوالدين والمجتمع من حولهم؛ لأنهم يشعرون من خلال "الشلة" بإثبات الذات، والتنفيس عن المشاعر بحرية.
فهل يعني ذلك أن نعزل الفتاة عن المجتمع؟
يخطئ المربون والآباء خطأً كبيرًا إذا حاولوا عزل الفتاة عن المجتمع وإحاطتها بسياج من حديد، خوفًا وإشفاقًا عليها، فقد ينتج عن ذلك ردود أفعال عكسية مثل الانطوائية والخوف الاجتماعي وقلة التجربة والخبرة، وفي النهاية نحصل على فتاة ذات شخصية مشوهة المعالم عاجزة عن التكيف الاجتماعي السليم. (د. حاتم محمد آدم: الصحة النفسية للمراهقين، ص:210).
أصول التربية الاجتماعية للفتاة:
من الأسرة تتلقى الفتاة أصول هذه التربية، حيث تشاهدها واقعًا ملموسًا تحياه في بيئتها الأولى حيث مجتمع الأسرة والأقارب والجيران، فيعمل الوالدين ـ خصوصًا الأم ـ على ربط الفتاة ربطًا وثيقًا بالآداب والتعاليم الإسلامية، وتدريبها على ضبط علاقاتها بالمحيطين بها من خلال:
معرفة حقوق الآخرين:
فنحن لا نعيش بمفردنا على هذه الأرض، ولكن معنا إخواننا يعطونا ونعطيهم، نقول لهم ونسمع منهم، نشاركهم الفرح والحزن، ويشاركونا تقلبات الحياة بحلوها ومرِّها، ولكي تحصل الفتاة على حقها فلابد أن تعطي للآخرين حقوقهم، بل وتحب لهم ما تحب لنفسها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [رواه البخاري ومسلم].
ويحسن أن تفهم الفتاة الترتيب السليم لأصحاب الحقوق، بدءًا بالوالدين، ثم الأرحام، والجيران، والصديقات، وكذلك حق المعلم وحق الكبير (د.أكرم رضا: مراهقة بلا أزمة، ص:145).
تدريب الفتاة على أداء الواجبات الاجتماعية عمليًا:
وأفضل وسيلة لذلك هي اصطحاب الأم لابنتها إذا ذهبت لزيارة أو أداء واجب اجتماعي من تهنئة أو عيادة مريض أو تعزية، وكذلك اصطحابها إذا ذهبتِ ـ عزيزتي الأم ـ إلى درس علم أو حلقة لحفظ وتلاوة القرآن الكريم.
إكرام الصحبة الصالحة للفتاة:
فحاجة الفتاة للرفيقات ماسة، كما أنهن يمثلن المجال التطبيقي لكثير من قيم التعايش مع الجماعة التي تتلقاها الابنة، فلابد من إكرامهن، ودعوتهن إلى زيارتها وحسن استقبالهن، ودعوة أمهاتهن في المناسبات، مما يهيئ وسطًا اجتماعيًا طيبًا للفتاة .. يشبع حاجتها للرفقة، وفي الوقت ذاته يحميها من رفيقات السوء (حنان عطية الطوري:الدور التربوي للوالدين في تنشئة الفتاة المسلمة،ص:159).
قبول الحق والاعتراف به:
من أهم الأخلاق الاجتماعية الضابطة التي يجدر بالأم أن تعوِّد عليها ابنتها، أن تقبل الحق من قائله ولو كان خصمًا أو صغيرًا لا يؤبه له، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) [رواه مسلم].
ويتمم هذا الأصل الأخلاقي أن تتعود الفتاة على الاعتراف بالحق وأن ترد نفسها إليه، وتعتذر إذا أخطأت.
تعليم الفتاة أن من عوامل نجاحها اجتماعيًا وقبولها في الوسط الذي تعيش فيه، أن تكون طلقة الوجه، دائمة البشر والتبسم، بعيدة عن العبوس وتقطيب الجبين؛ فإن ذلك من حسن الخلق والمعروف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) [رواه مسلم].
كذلك من عوامل نجاحها ألا تتكلف ما لا يعنيها من الأقوال والأعمال، وأن تكون عذبة الحديث، لا تأنف من ممازحة أخواتها وصديقاتها في أوقات يحسن فيها المزاح، من غير كذب أو تفاهة.
توعية الفتاة بالسلبيات الموجودة في المجتمع:
وتقع على الوالدين أيضًا مسئولية توعية الفتاة بما يوجد في مجتمعها من تقاليد وعادات جاهلية قد هدمها الإسلام، ولكن بقيت صورتها موجودة لدى الغافلين عن أحكامه أو المتفلتين من شرائعه، ومن أمثلة ذلك:
التعصب للأهل والعائلة "القبيلة" سواء كانوا على حق أو باطل، وقد كانت هذه العصبية من الأخلاقيات السيئة المنتشرة قبل الإسلام، وربما قامت بسببها الحروب الطويلة بين القبائل من غير أن يروا بها بأسًا، ويتضح ذلك من قول الشاعر الجاهلي معتزًا بذلك:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويتُ، وإن ترشد غزية أرشدُ
بينما جاء الإسلام ليهدم هذا الارتباط الجاهلي بالأهل والعشيرة، وليعلمنا أن التعصب لا يكون إلا للحق الذي أنزله الله تعالى وأنَّ الجميع يعرضون على هذا الحق بالقسط والعدل حتى ولو كانوا من أولي القربى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَلِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْيَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُواالْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَبِمَا تَعْمَلُون} [النساء: 135].
- ومن ذلك أيضًا التفاخر بالأحساب والأنساب، وهو ما نهانا عنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب) [صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (2922)].
فالناس جميعًا متساوون في الإسلام أمام الله تعالى، وميزان التفاضل الوحيد بينهم هو مقدار تقواهم لله تعالى، قال عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) [صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (2963)].
ومن ذلك أيضًا تقديم المفهوم الصحيح للقدوة في ذهن الفتاة، فأهل الفن والغناء ليسوا بقدوة أبدًا حتى لا تنخدع إذا رأت الفتاة ـ وحتمًا سترى ـ زميلات لها يقتدين بهؤلاء ويقلدونهم في بعض سلوكهم.
ولكن تتربى الفتاة على أن رأس الاقتداء يكون بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته الكرام، وآل بيته الأطهار، ثم يدعم الوالدان ابنتهما لتكون هي في مسلكها القويم قدوة لمن حولها من صديقات وزميلات أو قريبات.
وأخيرًا .. أخي المربي عزيزتي المربية
إنَّ سر النجاح في تربية الفتاة اجتماعيًا والوصول بها إلى درجة التواصل الاجتماعي الجيد، يكمن في تمثلها القدوة الصالحة الصادقة قولًا وعملًا فيما تلقنه لها من ضوابط كثيرة لعلاقتها بكل من حولها من البشر.. في شخص والديها، فواقع الوالدين في علاقاتهم الاجتماعية أقوى في البلاغ والتعليم من الأقوال المجردة إذا خلت من التطبيق العملي.
وبذلك تصبح "زهرة" فوَّاحة عطر، ينفذ عبيرها أينما حلت في مجتمعها، وفي أحضان أسرتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق