هناك قيم أساسية وثوابت اجتماعية تنظم الأفراد والمجتمعات، هذه القيم والثوابت يتوارثها الأفراد ويضيفون إليها ويغنونها. لكن تعلّمها يجري أساساً داخل الأسرة، عن طريق التنشئة والتربية وتقديم القدوة الصالحة للطفل.
عندما يبدأ وعي الطفل في التفتح، فإنه يجد نفسه إزاء مجتمع صغير تمثله عائلته، له قواعد وأساسيات سلوك، قد لا يكون من السهل عليه أن يلتزم بها. لكنه، وبشكل تدريجي، يبدأ في تعلم قواعد الحياة المشتركة وقيمها. ومن نافلة القول إن المعلم الأساسي لهذه القواعد هو الأم، التي هي الكائن الأكثر التصاقاً بالطفل. في ما يأتي سنستعرض بعضاً من هذه القيم، والطريقة السليمة لجعل الطفل يدركها ويلتزم بها.
1- حقوق الآخرين:
يعيش الأطفال الصغار في عالم يوفر لهم كل احتياجاتهم ويلبي رغباتهم ويراعي مشاعرهم، من دون أن يتكلّفوا أو يُطلب منهم أي شيء. فالشمس تشرق وتغيب عليهم، والعالم يدور من حولهم، وكل ما يحيط بهم موضوع في خدمتهم.
ولكن، عندما يتخطى الطفل عمر السنة، يجب أن يعرف الكثير عن حقوقه الأخرى. وعلى الرغم من أن الدرس عسير جداً، ويتطلب تعلمه جهداً كبيراً وسنوات طويلة، إلّا أن الأم تستطيع البدء حالاً في تعليم طفلها هذا الدرس، آخذة بعين الاعتبار المبادئ التالية:
* عليها ألا تلعب دور الضحية: فجزء من كونها أماً يوجب عليها وضع احتياجات طفلها قبل احتياجاتها معظم الوقت، وليس كل الوقت، لأنه قد ينتج عن ذلك أمران غير مستحبين: أولاً، يمكن أن يجعل الأم تشعر بأنها مظلومة، نتيجة العبء الثقيل الذي يقع على عاتقها، وثانياً، يمكن أن يزيد ذلك من تحكم الطفل ويطيل مدة تسلطه.
* والنتيجة هي أنه بدلاً من أن يكبر الطفل بشكل عادي خلال مرحلة النمو الطبيعية هذه، فإنه يكبر وهو يركز على ذاته فقط، ليصبح طفلاً فاسداً إلى أبعد الحدود.
* وكأم، أنت في حاجة إلى حماية حقوقك من أجل مصلحتك ومصلحة طفلك أيضاً، على الرغم من أن حقوقك لن تكون بالتأكيد واسعة وشاملة كما كانت قبل أن تصبحي أماً. ولكن يجب عدم التنازل عن بعض هذه الحقوق، مثل تمضية بعض الوقت في القراءة من حين إلى آخر، بدلاً من اللعب كل الوقت مع طفل متطلب، أو الذهاب إلى الحمام عند الحاجة بدلاً من التأجيل حتى يأذن لك طفلك، أو الاحتفاظ بغرفتك نظيفة ومرتبة، بدلاً من أن يكون مفروشة بألعاب طفلك.
* عليها عدم الاكتفاء بالمطالبة بالحقوق، ولكن توضيحها أيضاً: فبدلاً من أن تقول الأم لطفلها: "لا أستطيع اللعب معك الآن لأنني أقرأ". عليها أن توضح له قائلة، مثلاً: "إن القراءة تجلب لي المتعة، تماماً كما لعبت بألعاب يجلب لك المتعة. والآن، أريد أن أستمتع بقراءة كتابي بينما تستمتع أنت في اللعب بألعابك". فهذا يعطي الطفل فكرة عن أنك إنسان له احتياجاته وعنده رغبات تماماً مثله هو.
وبالمثل، إذا طلب الطفل من أمه قراءة قصة له أثناء انشغالها بالحديث على التليفون أو مع الجارة مثلاً، عليها ألا تقول له فقط "عليك الانتظار"، بل عليها القول: "يجب أن أتكلم في التليفون الآن، وسأقرأ لك القصة عندما أنتهي من الحديث".
عليها أن توضح الأمر أيضاً عند الطلب منه احترام حقوق شقيقه أو شقيقته أو رفيقة في اللعب أو أي غريب آخر. عليها القول له مثلاً: "إن شقيقتك مشغولة بالدرس الآن، وهي في حاجة إلى بعض الهدوء"، بدلاً من القول له بفظاظة وبصوت عالٍ: "لا تقترب من شقيقتك إنها مشغولة بالدرس".
بالطبع، الطفل يبقى طفلاً مهما حاولت الأم تلطيف كلامها ومطالبها متوقعة من جانبه، وإلى حد ما مقبولة. المهم في الأمر أن تكون قد بدأت في زرع فكرة أن للآخرين حقوقاً أيضاً في ذهن طفلها الصغير.
* عليها احترام حقوق طفلها: معظم الأهل، في محاولة منهم لإثبات حسن النية في تنشئة ذرية صالحة، يضعون حقوق رفاق أطفالهم في اللعب في مرتبة متقدمة على حقوق أطفالهم. ومن دون استئذان من الطفل، يقدمون لعبته المفضلة إلى زائر غريب. ومن دون الأخذ بعين الاعتبار أن طفلهم هو الذي قد يكون على حق، يقفون من دون تردد إلى جانب الطفل الآخر، لو حصلت مشاجرة بينهما. ولسوء الحظ، بدلاً من أن يتعلم الطفل السخاء وحسن التصرف في مثل هذه المواقف، فإنها تدفعه إلى أن يصبح أنانياً. كما أن تعرض الطفل للأوامر والتهديد دائماً، يؤدي غالباً به إلى أن يصبح أكثر عناداً وتصميماً على عدم المشاركة وعدم التعاون وعدم تحمل المسؤولية.
كما يجب حفظ وصيانة حقوق الطفل عند ولادة طفل جديد في العائلة. فإن الطلب من الطفل تقديم تنازلات للمولود الجديد لأنه "هو الأكبر" ليس عدلاً، ويمكن أن يولّد لديه عداء نحو القادم الجديد.
* على الأم احترام مشاعر طفلها: إذا لم تكن مشاعر الطفل محترمة ومصونة، فإنه لن يتعلم احترام مشاعر الآخرين. فإذا أحرجت الأم طفلها أمام الآخرين، كالقول له مثلاً: "أنت طفل شقي. لماذا سكبت الحليب على الأرض؟". أو إذا لم تحترم رأيه، كأن تقول له مثلاً بفظاظة: "القميص الذي تلبسه لا يتلاءم مع البنطلون"، أو إذا تكلمت مع الطفل على أنه شخص تافه لا شأن له، فهي بذلك لا تحطم من معنويات طفلها وتقلل من احترامه لذاته فقط، بل إنها تعلمه أن تجاهل مشاعر الآخرين أمر غير مستهجن.
* على الأم أن تكون مثلاً يُحتذي: كما هو معروف، فإن للأفعال دائماً تأثيراً أقوى من الأقوال. لذا، فإن الطلب من الطفل الاعتراف بحقوق ومشاعر الآخرين، في الوقت الذي توجه فيه الأم الإهانة إلى المدرّسة الطفل مثلاً أمام الجميع، أن تتلفظ بكلمات نابية أمام طفلها، تكون وكأنها ترسل إليه رسالة بأن مثل هذه التصرفات مقبولة، بغض النظر عما يمكن أن تقول.
* على الأم تعليم طفلها احترام مشاعر الآخرين: قد يبدو للأم أنه لا يزال من المبكر التوقع أن يتوقف طفلها الصغير عن معاملة رفاقه على أنهم "أشياء"، ولكن ليس من المبكر جداً البدء في تعليمه أن لهذه "الأشياء" مشاعرها الخاصة، التي يجب أن تُحترم. فإذا خطف طفلك لعبة من يد طفل آخر، لا تطلبي منه ردها له فقط، فإن ذلك لن يجد صدى لديه، طالما أنه يعتقد أن كل شيء مِلك له، بل حاولي أن تفهميه أنه عندما أخذ اللعبة من يد رفيقه، فإن رفيقه يشعر بالحزن، تماماً كما يشعر هو لو خطف رفيقه لعبته من يده. وحتى عندما يتصرف طفلك فعلياً بسخاء وكرم مع صديقه، تحدثي معه أيضاً عن المشاعر، وبيني له أن صديقه بدا فرحاً وسعيداً عندما أعطاه لعبته. ولا تنسي أن تمدحي تصرفه الحسن هذا. ومع أن الأمر قد يستغرق سنوات قبل أن يصبح طفلك مستعداً لتفضيل مشاعر الآخرين على مشاعره، فإن تأكيد مشاعر الآخرين، هو بمثابة الخطوة الأولى في اتجاه نموه عاطفياً.
2- لا أحد مثالياً:
في نظر الطفل الصغير أن الأهل يعرفون كل شيء ويستطيعون القيام بأي شيء، وهم دائماً على حق. ولكن، للأسف، فإننا، نحن الأكبر سناً، ندرك جيداً أن القدرة على فهم ومعرفة كل شيء هو وهم. حتى الأفضل والأذكى من بين الناس هو هش وضعيف، ولا يخلو من العيوب، فلا أحد أبداً مثالياً.
ومن الأفضل أن يعرف الأطفال هذه الحقيقة في سن مبكرة، عندما يصبحون في الشهر الخامس عشر من عمرهم، لأن الأطفال الذين يتعلمون أن كل شخص، بمن فيهم الأم والأب والجد والجدة، وحتى المعلمة، يرتكبون الأخطاء، يكبرون وهم يشعرون بأن في استطاعتهم القيام بمجازفات مدروسة من دون الخوف من الفشل.
ويمكن للأفكار التالية أن تساعدك في تعليم طفلك هذا الدرس:
* لا تطلبي من طفلك أن يكون مثالياً: لا تتوقعي من طفلك أن يقوم بما هو فوق طاقته، لأن ذلك سيثبط من عزيمته ولن يشجعه على تقدير ذاته، بل على العكس سيؤدي إلى تدمير نفسيته. لذا، يجب أن تكن توقعاتك متناسبة مع سن طفلك، ومتلائمة مع مزاجه وقدراته. وهذا لا يعني إطلاقاً أن توقعاتك يجب أن تكون محدودة أن معدومة. فإذا لم يُنتظر من الطفل أن يحقق مستوى معيناً لذاته، فإنه يفشل في الغالب في ضبط نفسه وفي مواجهة التحديات وركوب المخاطر. ويكون هذا الطفل وكأنه مجرد من الذات ومن الغرور، الذي يأتي نتيجة إحساسه بالعمل "البطولي" الذي حققه، والذي كان يعتقد أن ليس في استطاعته تحقيقه، وغالباً ما يفشل هؤلاء الأطفال في تحقيق الكثير في حياتهم.
* لا تطلبي من الآخرين أن يكونوا مثاليين: يجب أن تتقبلي عيوب الأشخاص المحيطين بك، مثل زوجك والأشخاص الذين تعملين معهم، أو الذين تلتقينهم في الشارع أو السوبر ماركت.. إلخ. وهذا لا يعني تقبل الحماقة الدائمة وعدم الوفاء والتصرّفات الصبيانية، كأمر واقع، ولكن تعاملي مع الواقع بصبر وجلد، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه حتى الأفضل من بين الناس له هفواته ويرتكب أخطاء أحياناً.
* لا تخفي أخطاءك عن طفلك: من المهم أن يعرف الأطفال أن الأهل أيضاً يرتكبون أخطاء ويرغبون في الاعتراف بها. لذا، عندما تفقدين أعصابك وتثورين غاضبة في وجه طفلك، أو عندما تنسين إعداد الطعام الذي طلبه منك، اعترفي بخطئك واعتذري عنه.
* لا تنشدي المثالية في شخصك: لا يوجد أهل مثاليون. ولهذا، شامحي نفسك إذا فشلت في أن تكوني الأم المثالية حسب توقعاتك. تذكري أنك مخلوق بشري، والبشر يخطئون، وكل الأهل أيضاً يرتكبون الأخطاء والحماقات من حين إلى آخر، ومعظمنا يرتكبها بشكل متكرر. فنحن في حاجة إلى الاعتراف بأخطائنا والتعلم منها، ومن ثم الاستمرار في الحياة.
* اعذري لطفلك أخطاءه: اتخذي كل الإجراءات الوقائية، ووفري له القبول غير المشروط، لا تتراجعي أبداً عن حبك له أو تتظاهري بذلك، لأن تصرفاته أو أداءه لم تعد تعجبك، أو لأي سبب كان. وبالطبع، طالما أنك أنت نفسك أيضاً لست مثالية وكاملة. لذا فإنك لن تكوني دائماً قادرة على التصرف بمثالية حيال تصرفات طفلك الحمقاء. إن فقدك أعصابك بين حين وآخر بسبب أخطاء فادحة وغير متوقعة، هو تصرف إنساني مقبول، ولكن احرصي فقط على أن يعرف طفلك أن حبك له باق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق